الأحد
29 شتنبر 2024
اختارت الجزائر، منذ ما يزيد عن 3 سنوات ونصف، الدخول في
صدامات متتالية مع المغرب، لاعبة ورقة "السيادة" من خلال إجراءات تُرسخ
تدريجيا لـ"قطيعة" تامة مع جيرانها الغربيين، وهو خيار أصبح قرار فرض
التأشيرة آخر تمظهراته. وكالعادة، فإن خطوة كهذه سبقتها تطورات جديدة بخصوص ملف
الصحراء، لا تصب في خانة الطرح الانفصالي التي يتبناه قصر المرادية.
فرض التأشيرة، عمليا، لن يكون له تأثير ملموس على المغاربة،
على اعتبار أن الأمر يعني فقط الأشخاص الذين لديهم ارتباطات عائلية مع الجزائريين
خصوصا في شرق المملكة، وبالنظر لأن الجزائر ليست من الوجهات السياحية التي تتصدر
اهتمامات المغاربة، الذين يفضلون أساسا السفر إلى إسبانيا والبرتغال وتركيا
وفرنسا، وحتى دول شرق آسيا.
ومع ذلك، فاللافت، مجددا، أن الرباط تفادت القيام بأي
"ردة فعل" رسمية، مفضلة الاستمرار في سياسة "التجاهل"، التي
تبنتها منذ 2021، بشكل يدفع إلى التساؤل حول ما إذا كان لنهج "التصعيد أحادي
الجانب" الذي اختارت الجزائر الاستمرار فيه خلال العهدة الثانية للرئيس عبد
المجيد تبون، أي تأثير واقعي على مسار الأحداث، وخصوصا تطورات ملف الصحراء التي
كسبت فيها المملكة مساحات واسعة.
تبون – شنقريحة.. ثنائية العداء
لم تكن النبرة العدائية للجزائر وليدة الأمس، فإذا ما عدنا
بالزمن إلى غاية نهاية 2019، سنجد أن تبون، ومعه رئيس أركان الجيش السعيد شنقريحة،
التي تولى منصبه إثر الوفاة المفاجئة لسلفه أحمد قايد صالح بعد انتخاب الرئيس
الجديد بأيام، رددا عبارات تدعم بشكل صريح الطرح الانفصالي في الصحراء، في ما بدا
وكأنه محاولة لإشاحة الأنظار عن الأزمة الداخلية للبلاد التي كانت تعيش على وقع
الاحتجاجات التي دفعت الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة إلى الاستقالة.
وفي شتنبر من سنة 2020، ستأخذ الأمور منحى آخر، حين تدخَّل
الجيش المغربي ميدانيا لإنهاء قطع الطريق البري الوحيد الرابط بين المغرب
وموريتانيا، وبالتالي كل منطقة غرب إفريقيا، بعد أسابيع من سيطرة موالين لجبهة
"البوليساريو" الانفصالية عليه، وهي الخطوة التي سيتبعها حضور مغربي
مُوسع في منطقة الكركارات، مع إعادة ترسيم الجدار الأمني عبر ضم أجزاء جديدة من
المنطقة العازلة في الجنوب الغربي والشرق، وهي خطوة فاجأت وأغضبت الجزائر بشكل
واضح.
ولم تنتظر الجزائر طويلا بعد عملية يوم 13 نونبر 2020، قبل
أن تصف تدخل القوات المسلحة الملكية بأنه "عمل عدائي ضد الصحراويين"،
مصرحة بدعمها لجبهة "البوليساريو" التي أعلنت الانسحاب من قرار وقف
إطلاق النار المُوقع مع الأمم المتحدة سنة 1991، لكن بعدها بأسابيع سيكون قصر
المرادية على موعد مع مفاجأة جديدة، حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب
الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء، في إطار اتفاق ثلاثي أعاد العلاقات
الدبلوماسية المقطوعة بين المغرب وإسرائيل طيلة عقدين.
من واشنطن إلى العرجة
الخطوة الأمريكية، التي أصبحت رسمية مع توقيع الرئيس ترامب
مرسوما رئاسيا اعتمده أيضا خلفُه الرئيس جو بايدن، دفعت الجزائر إلى تحريك العديد
من القرارات ذات الطبيعة الصدامية ضد المغرب، والتي ترتبط أساسا بالوضع الجيوسياسي
للبلدين. ففي مارس من سنة 2021 أبلغ الجيش الجزائري الفلاحين المغاربة الذين
يملكون أراضٍ في واحة "العرجة" الحدودية بأنهم مطالبون بمغادرتها
باعتبارها تقع داخل التراب الجزائري.
هذه الخطوة أظهرت أن التحركات الجزائرية أصبحت تستهدف
العديد من المغاربة في معيشهم اليومي، فالأمر يتعلق بمنطقة يتوفر الفلاحون
المغاربة على وثائق تثبت ملكيتهم للأراضي فيها، وهو وضع تشهد مناطق على الجانب
المغربي من الحدود مثيلا له، حيث يمارس الجزائريون أنشطتهم اليومية هناك منذ عقود،
غير أن الرباط لم تقم بأي إجراء مضاد، وفضلت الالتزام بما ورد في معاهدة خط الحدود
بين البلدين الموقعة بتاريخ 15 يوليوز 1972.
المواطنون المغاربة الذين يملكون أراض شاسعة في العرجة،
تحتوي على عدد كبير من أشجار النخيل المثمرة، أشهروا في وجه السلطات الجزائرية
وثائق ملكية تعود لثلاثينات القرن الماضي، أي قبل اقتطاع فرنسا أجزاءً من الصحراء
الشرقية المغربية وضمها إلى المناطق التي سوف تتأسس عليها بعد ذلك الجمهورية
الجزائرية الوليدة سنة 1962، بما في ذلك الأراضي التي تمثل الآن ولايتي بشار
وتندوف، لكن السلطات المغربية لم تتحرك باتجاه أي رد صدامي.
سحب السفير من الرباط
الثابت أنه منذ واقعة "الكركارات"، أصبح توجه
الجزائر نحو التصعيد الدبلوماسي واضحا، لدرجة أن جميع الخيارات كانت متوقعة، بما
في ذلك الإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين الجارين، وكان أول مؤشر
حقيقي على ذلك هو استدعاء السفير الجزائري من الرباط من أجل "التشاور"،
على خلفية ما اعتبرته "دعم الرباط لحركة انفصالية"، وهي حركة تقرير
المصير في القبائل.
وعلى الرغم من أن الجزائر تدعم "البوليساريو" منذ
السبعينات، وتستقبل ميليشياتها المسلحة على أراضيها، مع إمدادها بالمال والسلاح
والدعم السياسي، إلا أن مبرر التحرك الجزائري تمحور حول "الوحدة
الترابية" لأراضيها، إثر تصريحات سفير المغرب وممثله الدائم لدى الأمم
المتحدة، عمر هلال، والتي وصفتها بأنها "بالغة الخطورة".
وتحدثت الجزائر حينها عن "توزيعه مذكرة رسمية تتضمن
مساندة الرباط لاستقلال منطقة القبائل"، داخل مقر الأمم المتحدة في نيويورك،
متحدثة عن اتخاذ "إجراءات أخرى وفق تطور القضية"، على الرغم من أن
استحضار هلال لمطالب تقرير المصير في القبائل، في اجتماع دول عدم الانحياز، أتى
ردا على الدعم الجزائري للطرح الانفصالي في الصحراء، التي تعتبرها المملكة جزءا لا
يتجزأ من أراضيها.
قطيعة دبلوماسية "متوقعة"
كان من الطبيعي، بالنسبة لمن تابعوا تطورات الأزمة بين
البلدين، أن تعمد الجزائر إلى قطع علاقاتها مع المغرب، وهو ما حدث في غشت من سنة
2021، حين أعلن عن هذه الخطوة وزير الخارجية السابق، رمطان العمامرة، الذي ظهر
أمام عدسات وسائل الإعلام المحلية ليسرد بيانا طويلا حول هذه الخطوة، التي لم يكن
من المستغرب أن يضع من بين مبرراتها تطورات قضية الصحراء والعلاقات مع إسرائيل،
لكن المثير للانتباه كان هو استحضارها أحداثا مرت عليها عقود من الزمن.
وأثبت بيان العمامرة، أن النظام الجزائري يعيش على ترسبات
حرب الرمال وحرب الصحراء وأزمة منتصف التسعينات، إذ جاء فيه، مثلا، وبلهجة متشجة
مفتقرة للديبلوماسية، أنه "ثبت تاريخيا، وبكل موضوعية، أن المملكة المغربية
لم تتوقف يوما عن القيام بأعمال غير ودية وأعمال عدائية ودنيئة ضد بلدنا، وذلك منذ
استقلال الجزائر، هذا العداء الموثق بطبيعته الممنهجة المبيتة، تعود بداياته إلى
الحرب العدوانية المفتوحة عام 1963 التي شنتها القوات المسلحة الملكية المغربية ضد
الجزائر حديثة الاستقلال".
ومع ذلك، فإن الواضح، كان هو أن محرك القرار الجزائري كان
هو تطورات قضية الصحراء، الذي فرد له البيان النقط السابعة بشكل مطول، محيلا على
رفض الرباط مناقشة أي طرح آخر غير مقترح الحكم الذاتي، باعتباره يمثل
"تخلياً" عن التزامات سابقة للرباط، وأبدى وزير الخارجية الجزائري عدم
رضا بلاده حتى على الأمم المتحدة بسبب عدم قدرتها على فرض "استفتاء تقرير
المصير" الذي تدافع عنه الجزائر بقوة.
من البر إلى الجو
وإذا كان إعلان قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين
بدوره، ظل بدون أثر واضح على مسار ملف الصحراء، فإن الجزائر عجلت بالتصعيد مجددا
في شتنبر من سنة 2021، حين أعلنت الإغلاق الفوري لمجالها الجوي أمام جميع الطائرات
المدنية والعسكرية المغربية، وتلك التي تحمل رقم تسجيل مغربي، حسب ما جاء في بيان
لرئاسة الجمهورية إثر اجتماع المجلس الأعلى للأمن.
هذا الاجتماع، خُصص أساسا وبشكل كامل للمغرب، إذ نقرأ في
البيان أنه عُقد من أجل "دراسة التطورات على الحدود مع المملكة المغربية،
بالنظر إلى استمرار الاستفزازات والممارسات العدائية من الجانب المغربي"، إلا
أن الرباط مرة أخرى، وعبر الخطوط الملكية المغربية، فضلت عدم التركيز كثيرا على
هذا القرار، باعتباره "لن يؤثر إلا على 15 رحلة أسبوعيا"، وهي الرحلات
المتجهة إلى تونس ومصر وتركيا والتي غيرت مسارها شمالا.
والملاحظ أنه في الوقت الذي كانت فيه الجزائر تُركز على
الخطوات التصعيدية تجاه المغرب، كانت الرباط تستعد لحصد مكاسب جديدة في ملف الصحراء،
ففي دجنبر من سنة 2021، عادت العلاقات بين المغرب وألمانيا بعد إعلان برلين أنها
تعتبر مقترح الحكم الذاتي المغربي "مساهمة مهمة" لحل النزاع، ثم في مارس
من سنة 2022، أتت رسالة رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز للملك محمد السادس،
التي أعلن من خلالها دعم بلاده للمقترح المغربي.
وقف تدفقات الغاز
الخطوة الجزائرية الموالية لم تتأخر كثيرا، ففي نهاية
أكتوبر من سنة 2021، قررت الجزائر عدم تجديد عقود خط أنبوب الغاز المغاربي
الأوروبي، الذي كان يمر من الأراضي المغربية، والذي يضمن للرباط الحصول على 7 في
المائة من إجمالي الكميات المتجهة إلى إسبانيا، بالإضافة إلى استيراد باقي الكميات
التي يحتاجها عبر ضخ مباشرة من جارته الشرقية.
القرار الجزائري صدر عن رئاسة الجمهورية رأسا، والتي قالت
في بيان إن الرئيس تبون "أمر الشركة الوطنية "سوناطراك" بوقف
العلاقة التجارية مع الشركة المغربية، وعدم تجديد العقد". ورافق الإعلام
الجزائري هذه الخطوة من خلال تقارير تتحدث عن أن الأمر يتعلق بـ"إجراء
عقابي"، وأخرى تتوعد المغاربة بـ"المعاناة" جراء"انقطاع
الكهرباء"، وحتى "البرد وانعدام قنينات الغاز"، مُسَوِّقَة معطيات
خاطئة تتحدث عن اعتماد المغاربة على الغاز الطبيعي الجزائري من أجل الإنارة
والتدفئة والطبخ.
المغرب، مرة أخرى، لم يتفاعل بشكل مباشر مع هذا القرار،
وفضلت الحكومة الحديث عن البدائل التي كانت قد شرعت في التفاوض بشأنها مسبقا، وفي
قدمتها واردات الغاز المسال، لكن الخطوة الجزائرية أثرت أيضا على حاجيات إسبانيا
من الغاز الطبيعي، بعدما أصبحت الكميات الواصلة عبر الخط المتوسطي المباشر أقل مما
تحتاجه البلاد التي غامرت بعلاقاتها مع الرباط من أجل تمكين زعيم جبهة
"البوليساريو" الانفصالية من تلقي العلاج سرا على أراضيها، قبل أن يقتنع
رئيس الوزراء بيدرو سانشيز بأن علاقات بلاده مع المغرب أولى، معلنا دعم مقترح
الحكم الذاتي المغربي في الصحراء في مارس من سنة 2022.
الجزائر تحاصر نفسها
قبل الوصول إلى محطة فرض التأشيرة، عادت الجزائر إلى مسلسل
"التصعيد" ضد المغرب في يناير 2024، حين قررت عدم استيراد السلع القادمة
عبر الموانئ المغربية، وفق ما جاء في مراسلة للجمعية المهنية للأبناك والمؤسسات
المالية في الجزائر، موجهة إلى المدراء العامين للموانئ الجزائرية.
وأوردت الوثيقة أنه "في إطار عمليات التجارة الخارجية،
تقرر رفض أي عملية توطين لعقود النقل التي تنص على إعادة الشحن أو العبور عبر
الموانئ المغربية"، وأضافت أنه "قبل أي توطين، من الضروري دعوة المصالح
ذات الصلة للتأكد مع الفاعلين الاقتصاديين من عدم إجراء عمليات الشحن أو العبور
عبر الموانئ المغربية".
هذه الخطوة بدورها لم تجد أي تفاعل من أي جهة رسمية
بالمغرب، بل إنها، وحسب ما أوردته مجلة "جون أفريك" الفرنسية في فبراير
الماضي، أدت إلى ارتفاع تكلفة الشحن على البضائع المستوردة التي يحتاجها
الجزائريون، ما يعني انعكاسا مباشرا على الأسعار، لكنها أيضا خطوة تبعتها، بعد ذلك
بأشهر، ضربة أخرى قوية تلقتها الدبلوماسية الجزائرية، حين أعلن الرئيس الفرنسي
إيمانويل ماكرون الاعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء.